بحث ..

  • الموضوع

رسالة سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي لمناسبة عيد الأضحى المبارك

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد سيِّد المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وعلى كافة الأنبياء والمرسلين.

ابتُليَ نبيُّ الله إبراهيم ابتلاءً شاقّا حين وافتهُ الرؤيةُ كما في الآيةِ الكريمةِ ﴿يَا بُنيّ إنـِّـي أرى في الـمَنامِ أنِّي أذبحُكَ﴾ فسلَّم أمرَه لله، كذلك ابنُه، فمَضَيا كِلاهُما طائعَيْن ﴿فلمَّا أسْلَمَا وتَـلَّهُ للجَبِين﴾ نُودِي ﴿قدْ صَدَّقتَ الرؤيا إنَّا كذلكَ نَجزي الـمُحسِنِين* إنَّ هذا لَـهُـوَ البلاءُ الـمُبين* وَفَديْناهُ بذِبحٍ عَظِيم﴾ (الصَّافَّات 105-107).
​ثمَّ أنَّ الله تعالى بيَّنَ لهُ عليه السَّلام مكانَ البيْت، وأمرَهُ ببنائه على قواعِد التقوى والتَّوحيد إلى أن قال لهُ عزَّ وجَلَّ ﴿وَأذِّنْ فِي النَّاسِ بالحَجِّ يأتُوكَ رجالًا وعلَى كلِّ ضامرٍ يَأتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيق﴾ (الحجّ 27).
والأضحى الـمُبارَك في وِجدانِ الأمَّةِ، من قبلِ فِرَقِها ومذاهبِها، هوَ استشعارُ هذا الفِداء الَّذي هو هبةُ الله تعالى للطائعِ المؤمنِ الـمُسلِم. وهذا، بإخلاصِه وتقواه، يمضي قاصداً وجه الرَّحيم الكريم، مُحْرِماً مُلبِّياً طائفاً ساعياً واقفاً مُصَلياً، متقرِّباً إلى رضاه، متبرِّئاً من الرَّجِيم، مقرِّباً الهَدِيّ وعين القصْد منه كما قال تعالى ﴿وَلكِن ينالُهُ التَّقوى مِنكُم﴾ (الحجّ 37).
​واليوم، كما في كلّ زمان، ماضٍ أو آت، يتوجَّهُ المؤمنون (ولو بقلوبهم في هذه الظروف) بنواياهُم وأفئدتِهم ولسان حالهم التلبية، طاعةً ورضًى وتصديقاً وتسليماً لمرآة نوره وهدايته ودعوته الحق لِما شاءهُ ربٍّ كريم لهُم من كرامةٍ حين نبَّهَ أرواحَهُم إلى معنى الامتثال بالطاعةِ ارتقاءً بإنسانيَّتِهم إلى غايةِ الوجُود. ولا يكونُ هذا بالمُستطاع ما لم تستنيرُ بصيرةُ المرءِ وإرادتُه بكلمةِ الله ومقاصِد حِكمتِه. كلمةٌ تحمل دعوةً ساميةً إلى تجريدِ القلبِ من الهَوى ومذمومِ الخواطر. كلمةٌ معقولةٌ بكلِّ مجامعها بخالص أنوار المعرفة والحكمة ولطائف المعاني التوحيدية التي بها حياة القلوب والنفوس، وبمواجب الالتزامِ بحميدِ الأفعال والأقوال. ثمرتُها الفضائلُ التي بها يتحقَّقُ الإنسانُ في ذاتِه بما اقتضته أسرارُ حكمةِ الله في خَلقِه.
​وهل ما هو أوْلى من ثوْبِ المرءِ إلى وجهِ الحقّ وإلى نبعِ الحياة؟ وحين يسترسلُ الإنسانُ في الغفلاتِ انذهالًا بفُرَصِ الدّنيا، يتُوهُ في مطالبه عن النُّور ﴿وَلاتَ حينَ منَاص﴾.
يأتي عيد الأضحى المبارك، فيما التضحية لأجل قيامة الوطن باتت شبه معدومة أمام تحديات تحتاج الى مواقف جريئة وحاسمة، نرفع الصَّوت لنذكِّر في أيَّام الأضحى المبارَكة (والأضحى بالمناسبة مَحكيّ عنه في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم) بالـمُثُل والقيَم الإنسانيَّة التي طالما كانت عبر التاريخ في أصل المداميك الأولى لكلِّ حضارةٍ إنسانيَّة. العدلُ أساسُ الحُكم، والناس خُلِقوا أحرارا، والدعوةُ نادت قبائل الأرض للتعارُف على قاعدة التقوى. وهذا يعني الحوار، ونِشدان السلام وبالتالي يكون مقامُ الحوار في أعلى رُتب الحُكم والمسؤوليَّة.
إن ألفباء أمانة الكيان اللبناني هي في التلاقي والتسوية لا بمعنى غلَبة هذا على ذاك ولكن بمعنى التدبير الحكيم الذي يحفظُ للبنان أهلَهُ (وهم بالمناسبة مصنَّفون وفق القانون “طوائف تاريخية معترَف بها”)، وهم دستوريّاً مواطنُون تُظلّلهُم جمهوريَّة ديموقراطيَّة مبنيَّة على ميثاق العيْش المشترك. ولا ننسى أنَّ ما يناهزُ العقدَيْن من السنوات العجاف انقضت في زماننا المعاصِر بحمدِ الله بتسويةٍ مشهودة في الطائف ضمنها الدستور لتكون الحدّ الفاصل بين دولةٍ يحتكمُ الجميعُ إليها من جهة، وبين العودة إلى أتون الصراع والانقسامات من جهة أخرى.
ونحن في لبنان، يتلظَّى الشعبُ بوابلٍ غير منقطع من الأزمات في كلِّ القطاعات بلا استثناء، بسبب تدنّي مستويات الأداء السياسيّ الذي عجز عن اتخاذ قرارات أساسيَّة مُمكِنة في درب الإصلاح ومعالجة ثقوب الفساد السوداء، والاستماع الى مطالب الشباب والشابات.
إن الملفات والأزمات المتراكمة على كاهل اللبنانيين باتت في مرحلة خطيرة، تستدعي مواجهتها التعاضد الداخلي، والبدء بالإصلاح الحقيقي الناجع في كل قطاعات الدولة، وأولها الكهرباء التي باتت أكبر خسارة مالية في الخزينة العامة، كما تستوجب قراءة علمية لواقع الحال واجتراح الأفكار المناسبة للحد من الغلاء والمحافظة على مدخرات الناس ومعالجة تدهور سعر صرف الليرة وضبط الاقتصاد وكبح جماح الإحتكار.
وفي ظل ما يحصل حولنا من صراعات مفتوحة بين جبهات إقليمية ودولية متناحرة تأخذ في طريقها شعوب المنطقة وحقوقهم وعيشهم، فإن الأولَى بنا التفكير مليًا والتطبيق العملي لإبعاد وطننا عن النزاعات المدمّرة، وتنفيذ بنود مقررات الحوار الوطني الذي انعقد في العام 2006، والامتثال للنتائج الإيجابية التي سادت بعد مؤتمر “باندونغ”.
ونحن اليوم، في زمننا الـمُعاصِر، نرى العالـمَ يتعثَّر تحت وطأةِ الصِّراعات، ناهيكَ عن حالة الوباء التي كشفت، على الأقلّ، أنَّ جُلَّ الطاقات الأساسيَّة للبشر، تُستهلَكُ في متاهات ذلك الصِّراع في سباقاتٍ مُكلِفة إلى حدٍّ بالغ الإفراط لامتلاك النفوذ والسلاح وأدوات السَّيطرة ووسائل الإعلام والتواصل والتكنولوجيَّات الهادفة إلى التفوُّق والهيمنة بغياب مفهوم العدالة الدولية، وفي حين أن المناعة الصحيَّة تتهاوى أمام استفحال التلوُّث وافتقار الأنظمة الصحيَّة إلى الدعم الوافي.
نحن الموحدون الدروز ستبقى ثوابتـنا الوطنيَّة راسخة إيماناً منَّا بلبنان الوطن المبنيّ على أساس وحدته الوطنيَّة وعيشه المشترك، ودولته الجامعة وجيشه الصامد، وإننا إذ ندين الإعتداءات الاسرائيلية المتكررة على سيادة لبنان وأرضه وبحره وأجوائه، وسنبقى الى جانب القضايا الانسانية المحقة العادلة وفي طليعتها قضية الشعب الفلسطيني الذي يكافح بوجه الاحتلال وعدوانيته.
نسأل الله تعالى أن يُجلي البصائر ويوقِظ الضمائر، وأن يرفع بلطف قدرته الغمَّة عن شعوب أمتنا. ﴿واللهُ رءُوفٌ بالعِباد﴾.
وكل عام وأنتم بخير

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

تصنيفات أخرى