بحث ..

  • الموضوع

كلمة سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي بمناسبة عيد الفطر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتم النبيين وسيِّد المرسَلين، وآله وصحبه أجمعين.

       في نهاية الشهر الفضيل، نسبّحه تعالى الذي أوجبَ الصَّومَ بابَ قُربى إلى شكر نَعمائه وفضلِه، وجعل السَّعيَ به زُلفَى، يتوسَّلُ بها المؤمنُ سبيلَ طاعتِه وعدلِه، فالصَّومُ، إن جرَّد العبدُ نيَّـته في معناه ومقاصدِه، لأَبصَر بعينِ قلبِه محجَّةَ الطَّاعةِ يسلكُها واسطةً لشكر الـمُنعِم عزَّ وجلَّ على ما منَّ به من الخير والهدى، وعلى ما بارك به العالَمِين بكتابِ الحقِّ والحِجَا. والصّائمُ الطَّائع يستدرِكُ، بتجريدِ عزمِه، وتنقِيةقلبِه، ما شاء اللهُ تعالى له من نعمةٍ كبرى، إذ تضمرُ بالجوع نوازعُ الجوارح الجسمانيَّة، وتقوى بالذِّكر الحميدِ الـمُنير أشواقُ روحه إلى اكتساب لطائف المعاني والحِكَم، فيستشعرُ بها على قدْر إخلاصِه وسعْيِه، البرَكَةَ الرَّبَّانيَّة المكنوزة في أمِّ الكتاب.

       والشَّهرُ الـمُبارَكُ هو شهرُ الكِتاب﴿وَهَذا كِتابٌ أنزلْنَاهُ مُبارَكٌ فاتَّـبِـعُوهُ وَاتَّـقُوا لَعَلَّكُم تُرحَمُون﴾(الأنعام 100)، بمعنى الوقوف في نعمة الله. وشروطُه الإخلاصُ في التَّوحيد. فالصَّوم المكتوبُ “عليْكُم” هو الوسيلةُ لاستحضارِ حالاتِ المرءِ، جَسدًا ورُوحًا، في روضةِ الحقِّ. ولا يصِحُّ الأمرُ الجليلُ هذا إلَّا بالاستمساكِ﴿بِالعُرْوَةِ الوُثقَى﴾(البقرة 256)، وهذا يعني امتثالَ الأمرِ التزامًا بالمعروفِ، وهو الأخذُ بما يقتضيه الشَّرعُ والعقلُ المستنيرُ به بتواضُع المخلوقِ في حضرةِ الخلَّاق العليم، الواحدِ القهَّار، سبحانه وتعالى عن التشبيه علوًّا كبيرا. ويعني الانتهاءَ عن كلِّ مُنكَرٍ، وهو انسفال الطَّبع في عصيان الجوارح انزلاقًا إلى نوازع الغَيِّ والهَوى، ومخالفةِ الحدِّ انهزامًا في مثالبِ النَّزقِ وحبِّ الرِّياسةِ وارتكاب المظالم.

       إنَّ للفِطر فرحةَ عيدٍ يُنيرُها المعنى الإنسانـيُّ، فهيَ أبهى ما تكونُ إذْ يحقِّقُ الموحِّدُ المسلمُ مقاصدَ الآياتِ البيِّنات. ﴿قُل بفَضْلِ الله وبرحمته فبذلك فَلْيفرحُوا هُو خيْرٌ ممَّا يجمعُون﴾(يونس 58)، والوحْيُ الَّذي تلقَّاهُ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم هو أعظمُ الفضْل، إذ يُحيي الرُّوحَ بحقائق الإيمان، والقلوبَ برياضِ الذِّكر، والصُّدورَ بثوابت الشَّرع وحدوده، وكلّها من فيضِ الرَّحمةِ إذْ ترقى بالإنسانِ من كثافة الصَّلصال الفاني إلى لطافة الوجودِ الحقّ.

       جاء في المأثور أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا إذا التقوا يوم العِيد يقولُ بعضُهُم لبعضٍ “تقبَّلَ اللهُ مِنَّا ومِنك”، وهذا أساسُه أعمالٌ صالِحةٌ زكيَّة، ومسالك صادقة تقيَّة، وهِممٌ مخلصةٌ وفيَّة، وعزائم بارَّة قويَّة، يتقبَّلها اللهُ تعالى لأنَّها قربانُ الصَّالحين، وزكاةُ المؤمنين، وحقيقةُ الإقرار بنعمةِ الهداية التي لا يضاهيها من أمور الدّنيا شيءٌ قلَّ أو جلّ.

       إنَّه المثالُ الَّذي يُوجبُ الاقتداء به، والشَّهرُ المباركُ ماثلٌ في الزمان إلى يوم الدّين. ومهما اتَّسعتِ الفَجْوةُ بين ما يجبُ أن تكونَ عليه الأمَّةُ من جهةٍ، وبين ما تشهدُه من مآسٍ وويلاتٍ في الواقع من جهةٍ اُخرى، فإنَّهُ ما من مسوِّغٍ بأيِّ وجهٍ من الوجُوه للمرءِ أن يجدَ للغفلةِ أو للذّهول أو للمعصيةِ بابًا إلى روحه من دونِ استدراكٍ لها بالتوبةِ والتضرُّع والصَّلاة الصادقة.

       إنَّنا لا نرى انفصامًا بينَ هذه الحقائق السَّامية وبين ما يُمكن أن تكون عليه، بل ما يجبُ أن تكونَ عليه حالُنا في المجتمع وفي الوطن وفي الأمَّة. ومهما وجدت السياسةُ لها من مُسوِّغاتٍ تظنُّها ضروريَّة، فإنَّ كلَّ ما انفكَّ عن مقوِّمات الأخلاقِ، ومبادئ العدل، والعمللمصلحةِ الجماعةِ، هو باطل، بل مُولِّدللفتنِ وللأزمات.

إنّ المرحلة الخطيرة التي يمرّ بها وطننا لبنان، محاطاً بالأزمات والصراعات التي تعصف بالمنطقة، والتي تُرخي بثقلها علينا أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تستوجب منّا جميعاً، ومن المسؤولين والقيادات السياسية قبل غيرهم، أعلى درجات الوعي في التعامل مع هذه المرحلة، والى قرارٍ وطني بالتوافق في ما بينهم على حلّ الأزمات المتراكمة، بدءاً بالشغور في موقع رئاسة الجمهورية، إلى قانون الانتخابات، وتفعيل المجلس النيابي والعمل الحكومي، إلى الملف الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك تحصين الأمن ودعم الجيش المتراصّ الذي يحمي وطننا من اخطار كبرى محدقة به والقوى الأمنية لوجستياً ومادياً ومعنوياً، الى قضايا الإنماء والملفّات المعيشية، ومكافحة الفساد والهدر، وملف النفط والغاز. إنّ كل هذه المواضيع تتطلّب قناعةً من كل القوى السياسية بأنّ أحداً من الخارج لن يعطي لبنان أكثر من اللبنانيين أنفسهم، فلتكن المبادرات الذاتية لتنازلات من هذا الطرف وذاك، بما يوصل البلاد إلى مرحلة جديدة قبل فوات الأوان وذلك بصدق النيّة والحوار الجاد، ودعم الحكومة، وايجاد الباب التشريعي المناسب.

       نسألُ الله تعالى أن يهديَ الَّذين يحملون في أعناقهم أمانةَ حكم البلد إلى سواء السَّبيل. وأن يلهمَهُم إلى ما فيه خير لبنان. ونسألُه ببركةِ العيد المبارك، وبسرّ ارتباطِ معناه بنعمةِ الوحيِ الإلهيّ، أن يحمي شعوبَ أمَّتنا من كلِّ المحن والإرهاب بل وشعوب الإنسانية جمعاء، وأن يوقف محنة الشعوب العربية خاصة ًفي فلسطين وسوريا والعراق، وأن ينعمَ عليها بكرمه ورحمته بانبلاج صُبْح الفرَج بعد الشِّدَّة، وأن ينيرَ قلوبَنا بأنوار كتابِه، ويجلي عن بصائرِنا كلَّ حجابٍ عن طلب وجهه، وأن يوفِّقَنا في طلب رضاه، وهو أرحم الراحمين.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

تصنيفات أخرى