بحث ..

  • الموضوع

كلمة سماحة شيخ العقل بمناسبة ذكرى استشهاد المفتي الشيخ حسن خالد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

“وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” صدق الله العظيم

صاحبَ السماحة، صاحبَ السعادة، الأخوةُ الكرام

 

كم هو حقٌّ وواجبٌ أن نستذكرَ أعلامَنا وشهداءَنا، وأن نقفَ أمامَ وجوهِهم المشرقةِ في عتمةِ الظلم والظلام لنستمدَّ منها قبساً من نورٍ وإيمان، وروحاً من عزمٍ وإقدام في مواجهة تحدّيات الحياة!

وكم هي العَبرةُ غزيرة والعِبرةُ وفيرة، ونحن نستذكر شهيدَ الرسالة، ونقفُ عند شخصه الفذِّ وموقعِه الأرفع وحضورِه الأرقى، لنتذكَّرَ أنّ اغتيالَه المُفجعَ في العام 1989 لم يكن جريمةً عادية، يومَ كانت الحربُ الأهليةُ تلفِظُ آخرَ أنفاسِها ونيرانِها، ويومَ كانت البلادُ تعيش مَخاضَ ولادةِ الاتفاق وعودةِ السلام والوئام إلى الرُّبوع، بل كان اغتيالُه واحداً من أبشعِ الجرائم وأكثرِها دلالةً وحقداً، إذ كان رسالةً دمويةً لاغتيال صوتِ الحكمة والاعتدال، وقتلِ إرادةِ السلام والوطنيةِ والموقفِ الأخلاقيِّ النبيل.

لقد كان اغتيالُ سماحةِ المفتي محاولةً من أنظمة الحقد والتسلُّطِ للإيحاء بأنّ لبنانَ لا يُمكنُ أن يكونَ بلدَ الاعتدالِ في المنطقة، وأنَّ المسلمينَ لا يُمكنُ أن يلتقوا، وأنَّ الإسلامَ والمسيحيةَ والمذاهبَ المتعدِّدة لا يُمكنُها أنْ تعيشَ معاً، وبأنَّ حوارَ الأديان والثقافات على قواعد الإيمانِ والقيم والمفاهيم الاجتماعية المشتركة يَصطدمُ بحتميّة الصراع والإرهاب، لذلك برعوا في استهدافِ قائدٍ من هنا وعالِمٍ من هناك، أو في تفجير كنيسةٍ أو جامعٍ، أو في تكفيرٍ وتخوينٍ وكراهيةٍ لا تَعرفُ الحدود.

لم يكن الاغتيالُ حادثةً عابرة، بل كان رسالةً من ضمن سلسلة رسائلَ مُوجَّهة إلى من يريدُ السلامَ ويُطالبُ بالحقّ ويصرخُ عالياً في وجه الظلم، فقبْلَ اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد اغتالوا المفكِّرَ المستنير كمال جنبلاط؛ القائدَ الوطنيَّ والعروبيِّ وصاحبَ البرنامجِ المرحليِّ للإصلاح السياسي، اغتالوه واغتالوا بعده بوحشيةٍ وإجرامٍ رؤساءَ وعلماء وصحافيين ومناضلين وأبرياء، وكأنَّه لم تكن هناك من وسيلةٍ للتخاطب معَ هؤلاء النُخبةِ إلاّ وسيلةَ القتل والتفجير، رغمَ محاولات التهدئة والعقلنة التي قام بها آنذاك رجالٌ خيّرون مُسالِمون كالشهيد الشيخ حسن خالد، لكنّ الهيمنةَ الإجراميةَ كانت أقوى، وإرادةَ الشرّ والعبثِ كانت أكثرَ طغياناً وفقَ مخططاتٍ جهنَّميةٍ رَسمتْ للبنانَ ما رسمتْ بكلِّ عدوانيةٍ وصفاقة.

وجوهٌ وطنيةٌ ودينيةٌ وحواريَّةٌ وفكريّةٌ ونضاليةُ غُيِّبت عن الساحة تفجيراً وغدراً واغتيالاً، ولكنَّ لبنانَ الرسالةَ لم يمُتْ، حتى ولو تَجدَّدَ الإجرامُ في العام 2005 مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما تَبِعَ ذلك من سلسلةٍ دمويةٍ طويلة، حيث كانت لُعبةُ الأممِ تتجلّى بأبشع مظاهرِها على ساحة الوطن الصغير، تُحوّلُه الى كتلةٍ من نارٍ ودخان، وإلى مستنقعٍ من الفساد وسوء الإدارة والقهر والطغيان.

أيُّها الأخوةُ الكرام،

لماذا قُتل الشيخ حسن خالد؟ وهو القائلُ بلبنانَ الرسالة، قبل أن يُعلنَ العبارةَ عاليةً مباركةً قداسةُ البابا يوحنا بولس الثاني، وهو كذلك الإنسانُ العالِمُ المُسالم، والرمزُ الدينيُّ المعتدل، بانفتاحه على الحوار والمصالحة، وبموقعه الإسلاميِّ الأوّل كمُفتٍ للجمهورية اللبنانية، وبصراحته في قول الحقّ ورفضِه السكوتَ عن الظلم، وبمطالبته الدائمة باستقلال لبنان ووحدته.

لماذا قُتل؟ وهو اللبنانيُّ العربيُّ المُتمسِّكُ بوطنيته وعروبته وإسلامِه الحنيف، والحريصُ على التوازنات الوطنية الدقيقة، والمُطالِبُ الدائمُ بالعدالة والمساواة والإصلاح، والجامعُ بشخصيَّته بينَ الدين والسياسة، في توازنٍ وتكامل، لا في تداخلٍ وتضارب، حيث الدينُ يُوجّهُ ويُصوِّبُ، والدولةُ تُنظّمُ وترعى.

لماذا قُتل؟ وهو الرافضُ للاحتلال الاسرائيلي والمعارضُ لأيِّ تدخُّلٍ سافرٍ بشؤونِه أو هيمنةٍ على قرارِه.
لماذا قُتل؟ وهو مَن ترأّسَ أكثرَ من قمّةٍ روحيّة في دارتِه في عرمون، وعقد أكثرَ من اجتماعٍ حواريٍّ تشاوريٍّ في دار الفتوى، من أجل أن “يبقى لبنانُ سيّداً وعزيزاً وقويّاً”، كما يقول، وهو مَن كان صاحبَ رسالةٍ ناطقةٍ بالحقّ، قائلةٍ بالوطنية الصافية والعروبة الصحيحة والإنسانية السمحاء.

أليس في قتلِه رسالةٌ لنا جميعاً، نحن أهلَ الإيمان والحوار والاعتدال؟ أوليس في ذلك محاولةُ اغتيالٍ للدور الجامعِ لدار الفتوى الذي بقي قوياً متماسكاً في وجهِ الحرب، ولمواقعِنا الروحية الوسطيةِ جميعِها؟
وأخيراً، أليس في اغتيال شهيد الرسالة واغتيالِ مَن اغتيلَ قبلَه وبعدَه هدفٌ لدفعِ وطنِ الرسالةِ للارتداد عن حقيقتِه ليكونَ مؤئلَ الفتنةِ الدائمة وبؤرةَ الصراع اللامحدود والانحيازِ غيرِ المقبول، لا موطنَ السلام الدائمِ والحوارِ الروحيّ والتنوُّع الجميلِ والديمقراطيةِ الحيَّة والعروبة المتنوِّرة؟

أسئلةٌ تدورُ في أذهاننا جميعاً، نعرفُ وتعرفونَ الإجابةَ عليها، لنأخذَ العبرةَ منها، ولكي نستمرَّ على نهجِ هؤلاء الكبار، أمثالِ الشهيد الشيخ حسن خالد والشهيد الشيخ صبحي الصالح والشهيد الشيخ حليم تقيّ الدين وجميعِ الشهداء الأبرار، باستذكار مبادئهم وقِيمهم ومواقفهم، وبتأكيد العزمِ والعمل الدؤوب لنبذِ الفُرقة بين المسلمين أنفسِهم، كما بينَهم وبينَ أخوانِهم اللبنانيين على قاعدة الاحترام المتبادَل والشراكة الحقيقية.

أيها الأخوةُ الكرام،

لا يُمكنُ الردُّ على المجرم إلَّا بالتمسُّك بالرسالة الوطنية والثباتِ عليها، وإلَّا فإنَّنا نساعدُه في الوصول إلى غايتِه مرَّتين، مرّةً بقتل الجسد ومرَّةً بقتل الرسالة.

فلنُغلِّبْ صوتَ الحكمةِ والتفاهم على صوتِ الجهل والتخاصم، ولنُغلِّبْ صوتَ القمّة الروحية الحقيقية على أصوات الانقسام والانقطاع والتشرذم، صوتَ الدولة الجامعة المانعة المنتظِمة على صوت الضياع والفوضى والشلل، صوتَ المصلحة الوطنية العامة على صوت المصالح الفئوية والشخصية والحزبية والمذهبية، في ذلك نؤدّي في مؤسساتنا الدينية والوطنية رسالةَ الشهيد الشيخ حسن خالد وأمثالِه ونحافظُ على إرثهم وذكراهم ومبادئهم، ونحفظُ أمانةَ الوطن والدين وأمانةَ الشهداء الأبرار، لعلّهم بأبنائهم وأحفادِهم ينتصرون.

ولنتأكّدْ أنَّ الانتصارَ لا يكونُ بالاعتكاف عن العمل الوطني، ولا بالاستسلام والتخلُّف عن حملِ الرسالة ومواجهة التحديات، ولا بتركِ الساحة للمشاريعِ المستورَدة والهادفة إلى تغيير هويَّةِ لبنانَ وسلخِه عن تاريخِه وتراثِه، بل يكونُ بالإصرارِ على الرسالة، وعلى الثوابتِ الوطنية والأخلاقية، والسعي إلى إحداث التغيير المحمود، لا التغيير العبَثي، والحفاظ على الصيغة اللبنانية المتميِّزة بالتنوُّع الروحي والثقافي والإنساني وبالبُعدِ العربيّ الذي نؤكِّدُ عليه، ولنا في المملكة العربية السعودية وفي جميع الأشقَّاء العرب المخلصين خيرُ سندٍ وأخٍ وصديقٍ، إذ هم عمقُنا الروحيِّ والوطنيِّ والتاريخيّ، بما لهم عندنا من موقعٍ وموقفٍ ومحبة، وبما لنا عندهم من نُخَبٍ وفلذاتِ أكبادٍ، وبما بيننا من علاقاتٍ متجذّرةٍ أقوى من أيِّ عاصفةٍ عابثةٍ من هنا أو من هناك.

إنّنا نؤكِّدُ ما أكّدناه سابقاً بـ”أننا معَ الحياد عن كلِّ ما يُفرِّقُ والانحياز إلى كلِّ ما يجمع”، وأوَّلُ ما يَجمعُ هو لبنانُ الرسالة الذي استُشهِد من أجلها المفتي الجليل، والذي بها نحنُ متمسِّكون وبالنهج ذاتِه لمُقتَدون، وللمجلس النيابيِّ الجديد مُبارِكون وقائلون بضرورة الانطلاق الصحيح، بعيداً عن المناكفةِ والتعطيلِ والاستقواءِ والعبثية؛ الانطلاقِ نحو عهدٍ جديد، وبورشة إصلاحٍ حقيقي، وعملٍ تشريعيٍّ قائمٍ على التعاون الراقي والانتظامِ والانسجام والمحاسبة.

تحيةً لروح المفتي الشهيد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.

يا خالدٌ يكفيكَ أنّك خالدُ
بعِمامةٍ عكستْ بياضَ الطُّهرِ في
عنوانُـه الإسـلامُ، فيه سماحـةٌ بُوركتَ مُفتيّــاً صدَقتَ اللهَ بالـ
وقضَيتَ نَحبكَ راضياً حرّاً، ومـا

يا أيّهــا العَلَمُ الشهيدُ الشاهــدُ
شيخٍ يَؤُمُّ النـاسَ، وهْو القائــدُ
وشعارُه لبنــانُ؛ عيشٌ واحــدُ
توحيدِ، فيمـا كنتَ فيه تُعاهــدُ
بدّلتَ، فاشمــخْ للعُلى يا خالـدُ

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

تصنيفات أخرى